سورة الإسراء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} هذا المعنى وكررناه {فِى هذا القرءان} على وجوه من التصريف في مواضعَ منه، وإنما ترك الضميرُ تعويلاً على الظهور، وقرئ بالتخفيف: {لّيَذْكُرُواْ} ما فيه ويقفوا على بطلان ما يقولونه، والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان باقتضاء الحالِ أن يُعرَض عنهم ويحكى للسامعين هَناتُهم. وقرئ بالتخفيف من الذكر بمعنى التذكر، ويجوز أن يراد بهذا القرآنِ ما نطق ببُطلان مقالتِهم المذكورةِ من الآيات الكريمةِ الواردةِ على أساليب مختلفةٍ، ومعنى التصريفِ فيه جعلُه مكاناً له أي أوقعنا فيه التصريفَ كقوله:
يجرح في عراقيبها نَصْلي ***
وقد جُوّز أن يراد به إبطالُ إضافتهم إليه تعالى البناتِ، وأنت تعلم أن إبطالَها من آثار القرآن ونتائجها {وَمَا يَزِيدُهُمْ} أي والحال أنه ما يزيدهم ذلك التصريفُ البالغ {إِلاَّ نُفُورًا} عن الحق وإعراضاً عنه فضلاً عن التذكر المؤدِّي إلى معرفة بُطلانِ ما هم عليه من القبائح.
{قُلْ} في إظهار بطلانِ ذلك من جهة أخرى {لَّوْ كَانَ مَعَهُ} تعالى {كَمَا يَقُولُونَ إِذًا} أي المشركون قاطبةً، وقرئ بالتاء خطاباً لهم من قِبَل النبي عليه الصلاة والسلام، والكافُ في محل النصب على أنها نعتٌ لمصدر محذوف أي كوناً مشابهاً لما يقولون، والمرادُ بالمشابهة الموافقةُ والمطابقة {إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ} جوابٌ عن مقالتهم الشنعاءِ وجزاءٌ «لِلَوْ» أي لطلبوا {إلى ذِى العرش} أي إلى من له المُلك والربوبيةُ على الإطلاق {سَبِيلاً} بالمغالبة والممانعة كما هو دَيدنُ الملوكِ بعضِهم مع بعض طريقة قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} وقيل: بالتقرب إليه تعالى كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة} والأولُ هو الأظهرُ الأنسبُ لقوله: {سبحانه} فإنه صريحٌ في أن المراد بيانُ أنه يلزم مما يقولونه محذورٌ عظيم من حيث لا يحتسبون، وأما ابتغاءُ السبيل إليه تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقرير، ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون بل هو أمرٌ يعتقدونه رأساً، أي تنزّه بذاته تنزّهاً حقيقاً به {وتعالى} متباعداً {عَمَّا يَقُولُونَ} من العظيمة التي هي أن يكون معه آلهةٌ وأن يكون له بناتٌ {عَلَوْاْ} تعالياً كقوله تعالى: {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً} {كَبِيراً} لا غايةَ وراءه، كيف لا وإنه سبحانه في أقصى غاياتِ الوجود وهو الوجوبُ الذاتيُّ، وما يقولونه من أن له تعالى شركاءَ وأولاداً في أبعد مراتبِ العدمِ أعني الامتناعَ، لا لأنه تعالى في أعلى مراتب الوجودِ لذاته واتخاذُ الولد من أدنى مراتبِه فإنه من خواصَّ ما يمتنع بقاؤُه كما قيل، فإن ما يقولونه ليس مجردَ اتخاذِ الولد بل اتخاذِه تعالى له وأن يكون معه آلهةٌ، ولا ريب في أن ذلك ليس بداخل في حد الإمكان فضلاً عن دخولِه تحت الوجود، وكونُه من أدنى مراتب الوجودِ إنما هو بالنسبة إلى من شأنه ذلك.


{تُسَبّحُ} بالفَوقانية، وقرئ بالتَّحتانية، وقرئ: {سبّحت} {لَهُ السموات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} من الملائكة والثقلين، على أن المرادَ بالتسبيح معنًى منتظمٌ لما ينطِق به لسانُ المقال ولسانُ الحال بطريق عمومِ المجاز {وَإِن مّن شَىْء} من الأشياء حيواناً كان أو نباتاً أو جماداً {إِلاَّ يُسَبّحُ} ملتبساً {بِحَمْدِهِ} أي ينزِّهه تعالى بلسان الحالِ عما لا يليق بذاته الأقدسِ من لوازم الإمكانِ ولواحقِ الحدوثِ، إذ ما من موجود إلا وهو بإمكانه وحدوثِه يدل دَلالةً واضحة على أن له صانعاً عليماً قادراً حكيماً واجباً لذاته قطعاً للسَّلْسلة {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيحِ الذي به يفهم ذلك، وقرئ: {لا يُفَقَّهون} على صيغة المبني للمفعول من باب التفعيل {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} ولذلك لم يعاجلْكم بالعقوبة مع ما أنتم عليه من موجباتها من الإعراض عن التدبر في الدلائل الواضحةِ الدالةِ على التوحيد، والانهماك في الكفر والإشراكِ {غَفُوراً} لمن تاب منكم.
{وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان} الناطقَ بالتسبيح والتنزيهِ ودعوتَهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ورفضِ الشرك وغيرِ ذلك من الشرائع {جَعَلْنَا} بقدرتنا ومشيئتنا المبنيةِ على دواعي الحِكَم الخفية {بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} أُوثر الموصولُ على الضمير ذمًّا لهم بما في حيز الصلة، وإنما خُصَّ بالذكر كفرُهم بالآخرة من بين سائرِ ما كفروا به من التوحيد ونحوِه دَلالةً على أنها مُعظمُ ما أُمروا بالإيمان به في القرآن، وتمهيداً لما سينقل عنهم من إنكار البعثِ واستعجالِه ونحو ذلك {حِجَاباً} يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة ويفهموا قدرَك الجليلَ، ولذلك اجترأوا على تفوّه العظيمة التي هي قولُهم: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} وحَمْلُ الحجاب على ما روي عن أسماءَ بنت أبي بكر رضي الله عنه من أنه لما نزلت سورةُ (تبّت) أقبلت العوراءُ أمُّ جميل امرأةُ أبي لهبٍ وفي يدها فِهْرٌ والنبيُّ عليه الصلاة والسلام قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فلما رآها قال: يا رسول الله، لقد أقبلت هذه وأخاف أن تراك، قال عليه الصلاة والسلام: «إنها لن تراني» وقرأ قرآناً فوقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مما لا يقبله الذوقُ السليم ولا يساعده النظمُ الكريم {مَّسْتُورًا} ذا سَتْرٍ كما في قولهم: سيلٌ مفعَمٌ، أو مستوراً عن الحس بمعنى غيرَ حسيَ أو مستوراً في نفسه بحجاب آخرَ أو مستوراً كونُه حجاباً حيث لا يدرون أنهم لا يدرون.
{وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطيةً كثيرة جمع كِنان {أَن يَفْقَهُوهُ} مفعولٌ لأجله أي كراهةَ أن يفقهوه، أو مفعولٌ لما دل عليه الكلامُ أي منعناهم أن يقِفوا على كُنهه ويعرِفوا أنه من عند الله تعالى {وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} صمَماً وثِقلاً مانعاً من سماعه اللائِق به، وهذه تمثيلاتٌ مُعرِبةٌ عن كمال جهلِهم بشؤون النبيِّ عليه الصلاة والسلام وفرطِ نُبوِّ قلوبهم عن فهم القرآنِ الكريم ومجّ أسماعِهم له، جيء بها بياناً لعدم فقهِهم لتسبيح لسانِ المقالِ إثرَ بيانِ عدمِ فقههم لتسبيح لسانِ الحال، وإيذاناً بأن هذا التسبيحَ من الظهور بحيث لا يُتصوَّرُ عدمُ فهمِه إلا لمانع قويَ يعتري المشاعرَ فيُبطُلها، وتنبيهاً على أن حالَهم هذا أقبحُ من حالهم السابق لا حكايةٌ لما قالوا: {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} كيف لا وقصدُهم بذلك إنما هو الإخبارُ بما اعتقدوه في حق القرآنِ والنبيِّ عليه الصلاة والسلام جهلاً وكفراً من اتصافهما بأوصاف مانعةٍ من التصديق والإيمانِ، ككون القرآنِ سحراً وشِعراً وأساطيرَ وقِسْ عليه حالَ النبي عليه الصلاة والسلام، لا الإخبارُ بأن هناك أمراً وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائلٌ من قِبلهم. ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام. {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ} واحداً غيرَ مشفوعٍ به آلهتُهم، وهو مصدرٌ وقع موقعَ الحال، أصلُه يحد وحدَه {وَلَّوْاْ على أدبارهم} أي هربوا ونفروا {نُفُورًا} أو ولَّوا نافرين.


{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} متلبسين به من اللغو والاستخفافِ والهُزْء بك وبالقرآن، يروى أنه كان يقوم عن يمينه عليه الصلاة والسلام رجلان من بني عبد الدار وعن يساره رجلان فيصفّقون ويصفِرون ويخلِطون عليه بالأشعار {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ظرفٌ لأعلمُ وفائدتُه تأكيدُ الوعيدِ بالإخبار بأنه كما يقع الاستماعُ المزبورُ منهم يتعلق به العلم، لا أن العلمَ يستفاد هناك من أحد وكذا قوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى} لكون لا من حيث تعلّقُه بما به الاستماعُ بل بما به التناجي المدلولُ عليه بسياق النظمِ، والمعنى نحن أعلمُ بالذي يستمعون ملتبسين به مما لا خيرَ فيه من الأمور المذكورةِ وبالذي يتناجَوْن به فيما بينهم، أو الأولُ ظرفٌ ليستمعون والثاني ليتناجَون والمعنى نحن أعلمُ بما به الاستماعُ وقت استماعِهم من غير تأخيرٍ وبما به التناجي وقت تناجيهم، ونجوى مرفوعٌ على الخبرية بتقدير المضافِ أي ذوو نجوى، أو هو جمعُ نَجيّ كقتلى جمع قتيل أي متناجُون {إِذْ يَقُولُ الظالمون} بدل من إذ هم، وفيه دليلٌ على أن ما يتناجَون به غيرُ ما يستمعون به وإنما وُضع الظالمون موضعَ المُضمر إشعاراً بأنهم في ذلك ظالمون مجاوزون للحدّ، أي يقول كلٌّ منهم للآخرين عند تناجيهم: {إِن تَتَّبِعُونَ} ما تتبعون إنْ وُجد منكم الاتباعُ فرضاً أو ما تتبعون باللغو والهزء {إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} أي سُحِر فجُنّ أو رجلاً ذا سَحْر أي رئةٍ يتنفس، أي بشراً مثلَكم.
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} أي مثّلوك بالشاعر والساحر والمجنونِ {فُضّلُواْ} في جميع ذلك على منهاج المُحاجّة {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} إلى طعن يمكن أن يقبله أحدٌ فيتهافتون ويخبِطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه أحد، أو إلى سبيل الحقِّ والرشاد، وفيه من الوعيد وتسليةِ الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10